منصة إنسان – متابعات
في 19 مايو/أيّار، من سنة 1943م، قبل 78عامًا على التّمام، ولد يوسف محمّد عبد الله الشَّيْبانيّ، في حقبةٍ كان فيها العالم يعيش ويلات الحرب العالميّة الثّانية، أمّا بلدُهُ اليمن فكانت ويلاتُها مُخْتَلِفَةً ومُتَخَلِّفَةً جدًّا، ولا سيمّا شماليّه، إذ كان يعيش عُزْلةً كاملة عن عصره، تحت وطأةِ حُكْمٍ سُلاليّ كهنوتيّ، قلّما نجا من ظُلْمِهِ وظلامِهِ أحدٌ من أبناء اليمن، وقلّ أن وجد مولودٌ فيه طريقًا إلى الحياة، فضلًا عن أن يكون له حظٌّ منَ العلم، ولو قليلًا، ما عدا ثُلّةً كان القدر يُخبّئ لهم مستقبلًا مغايرًا، بل كان يُخبّئهم لمستقبل مغايرٍ، كان من بين تلكّ الثُّلَّة يوسف محمّد عبد الله، الّذي حصل مع بزوغ ثورة 26سبتمبر المباركة سنة 1962م،على الثّانويّة العامّة باللُّغة الإنجليزيّة (امتحان شهادة الثّقافة العامّة GCE) من عدن، فكان بذلك قد أمسك بأُولى العُرى الّتي سوف تَتالى بين يديه عُروةً تلو أخرى طوال مسيرته العلميّة الحافلة، الّتي امتدّ عطاؤها ستّين عامًا.وفي سنة 1967م -بينما كانت الحرب بين الجمهوريّة وفُلول الملكيّة تضع أوزارها، معلنةً مبعثًا جديدًا لليمن، تنفّس فيه اليمنيّون عَبَق التّاريخ والحضارة اللّذين خلّفهما أجدادُهم اليمانين الميامين، وتلمّسوا فيه أمارات الإحياء، وبشائر الهويّة والانتماء- تخرّج يوسف محمّد عبد الله في الجامعة الأمريكيّة ببيروت، وبعد ذلك بسنواتٍ ثلاث حصل على شهادة الماجستير في (اللُّغة والآداب والنُّقوش القديمة)، من الجامعة نفسها، وكان هذا السّعي الحثيث منه لنيل المعرفة وتَطْلابها رغبةً في خدمة بلاده اليَمَن، واستكشاف مجاهيلها، واستنطاق نقوشها، لعلّ فيها ما يُعين هذا الشّعب على الخروج من عزلته، والتّحرّر من المفاهيم البالية الّتي ورّثها إيّاه حُكْم الغُرباء، وثقافة الدُّخَلاء؛ وقد كان ليوسف محمّد عبد الله بعض ما أراد، إذ وجد فيما خلّفت سبأ وحِمْير وغيرهما، من آثارٍ دالّة على عقولهم الوافرة، وألبابهم الصَّليبة، وأيديهم الصَّناع، خيرَ مُعينٍ على النُّهوض بالنّاشئة، وتبصيرهم بتاريخ بلدهم، ووِزانها الحضاريّ، ومكانتها المرموقة بين قُوَى النُّفوذ في ذلك الأَوان: حِمْير، والحَبَشة، والفُرْس، والرُّوم.
وفي سنةٍ 1975م، بعد تولّي الرّئيس إبراهيم الحَمْديّ منصب الرّياسة، وإعلانه مسيرة البناء، وبدء حياةٍ جديدة من العزّة والإباء، كان يوسف محمّد عبد الله على موعدٍ مع نيل درجة الدّكتوراه، من جامعة توبنجن من ألمانيا الاتّحاديّة في (النّقوش العربيّة القديمة، والآثار والدّراسات الإسلاميّة)، فتَأَتَّى له بذلك مُحاكاة ما يجري في بلده من تَوْقٍ لتأسيس دولة عِلْم، وإرساء نظام سِلْم، مبنيٍّ على العدالة والمساواة وتَكافُؤ الفُرَص، وتَأَتَّى له أيضًا تعزيز ما أدركه في تخصُّصِهِ برسالته الأولى، وتعزيز اللُّغتين الأُوليَين، وهما العربيّة لُغته الأمّ، والإنجليزيّة لُغة التّحصيل والعِلْم، بلغةٍ ثالثة لا تقلّ عنِ الأُوْلَيين، ولا سيّما فيما يتعلّق بالنُّقوش، ألا وهي اللُّغة الألمانيّة، الّتي ملك ناصيتها في وقتٍ وجيزٍ، بحسب ما ذكر لي، على أنّها تتمنّع عن طالبيها، وتكون على غير النّابهين منهم في حِرْزٍ حَريز، ما أثار إعجاب الألمان ودَهَشهم، فترّبع بذلك يوسف محمّد عبد الله مكانةً مرموقة في نفوسهم، دامت في ازدياد حتّى وفاته، رحمه الله.
والنّاظر في روافد يوسف محمّد عبد الله العلميّة، من امتلاكِهِ نواصي ثلاثِ لُغاتٍ حيَّة، ونحوها من لُغات النُّقوش، امتلاكَ مُتَمَكِّنٍ مُقْتَدر، غير مُدَّعٍ مُتَنَفِّج، إلى حصوله على درجة الدّكتوراه في أوانٍ كانت الدّرجات العُلْيا في اليمن يتيمةً، وكان أصحابها قِلَّةً= لا شكّ يُدرك أن المهمّة المَنوطة بالرَّجُل، رحمه الله، كانت شاقّةً، وأنّ طريقه في بلده ليس لاحِبًا ولا مُوطَّأً، ومع ذلك فقد خطا خطواتِهِ الأولى بِثَباتٍ، وشقّ طريقه في الصَّخْر بأَناة، مستعينًا بتواضُعٍ جَمٍّ عُرِف عنه، وحُسْن خُلُق وطِيب مَعْشَرٍ لازماهُ ورافقاهُ طوال عُمُره.
وفي سنة 1976م، انطلق الدّكتور يوسف مُحلِّقًا في فضاء التّدريس بجامعة صنعاء الوليدة، الّتي كان إنشاؤها سنة 1970م، فكان من البُناة الأوائل الّذين استندت إليهم الجامعة، كلّ بحسب اختصاصه، فأخذ الدّكتور يوسف بأيدي النّاشئة في الجامعة بيدٍ حانية، فيها لِينٌ من غير ضعف، وشدّةٌ من غير عُنْف، محاولًا تبصيرهم بِمَمْضى آباهم، وتحفيزهم لإحياء تراثهم، مُذلِّلًا لهم الصِّعاب، موفِّرًا لهم المصادر النّادرة الّتي لا يُدْرَك أكثرُها في اليمن، جاعلًا مكتبتَهُ مَشاعًا لهم، ووقتَهُ نُهْبًة بين أيديهم، فأثمر زَرْعُهُ ذاك، وأياديه تلك، في طائفةٍ من طَلَبَتِهِ، حَذَوا حَذْوَهُ أو كادوا، وتمثّلوا نهجة أو قاربوا، رغم ظروف اليَمَن، وما يُعرف به أهلها من الوفاء لمن يُعلِّمهم، ويُحسن إليهم، وهي عادةٌ قديمة، ولا سيّما إذا كان معلِّمُهم من أهلهم.
تبوَّأ الدّكتور يوسف مناصبَ علميّة رفيعة عدّة، ومناصب أخرى إداريّة عالية في الدّولة، وقد كان لتلك الوظائف أثرانِ، أمّا الحسن منهما فهو أنّ الدّكتور يوسف استطاع من خلالها أن ينفع فئةً كبيرةً من طلبة العلم، وأن يمكّنهم من الوظيفة العامّة في مجالات اختصاصهم، الّتي كان يشغلها قبلهم العامّة من النّاس من حَمَلَة الثّانويّة وما دونها، يُضاف إلى ذلك أنّه من مواقعه الّتي شغلها كان يُمثّل اليمن في المحافل الدّوليّة، فكان خير من يُمثّلها بالمعرفة الحقّة، والتّمثيل الجادّ، والإسهام الفاعل، مستعينًا في ذلك بحُسْن سَمْتٍ، وطَلاقة لسان، ودَماثة خُلُق، وبهاء هيئة، فأخرج بذلك كلِّهِ تمثيلَ اليمن من إطاره المألوف إلى فضاء أوسع وأرحب، فعكس بذلك إِرْث اليمن الفكريّ والحضاريّ على واقعه المتواضع، وألقى بثِقْلِهِ العلميّ وعلاقاته ذات الوِزان الدّوليّ، حتّى أعاد لليمن بعض هيبتها، وأنزلها بعض منازلها اللّائقة بها.
وأمّا الجانب غير الحسن في تبوُّئه المناصب الإداريّة، فهو في أنّها صَرَفَتْهُ عمّا يُحبّ من التّفرّغ للتّدريس والبحث العلميّ، وتأليف الكتب، ونشر الأبحاث، ومتابعة القراءة والاطّلاع، بما يلائم مكانته العلميّة والمعرفيّة في إطار اختصاصه على صعيد المنطقة من جهةٍ، وعلى صعيد المراكز البحثيّة الّتي كان على صِلةٍ بها طوال حياته، من جهة أخرى، غير أنّ مَن يعرف اليمن يعلم أنّه لا يُدْرَكُ فيها حقٌّ لمن لم يكن في موقع نُفوذ، وأنّ المرءَ فيها لا يستطيع الانصراف، ولو قليلًا، إلى ما يُحبّ إلّا إذا فعل كثيرًا ممّا يجب ممّا لا يُحبّ.
كان للدّكتور يوسف إسهامات كثيرةٌ ومتنوّعة، لعلّ الكلام عليها يحتاج إلى كتابٍ ذي خِطّة خاصّة، غير أنّه يحسن التّنبيه ههنا على إسهامه في تحقيق النّصوص، ولا سيّما مشاركتُهُ الفاعلة في تحقيق كتاب (شمس العلوم ودَواء كَلام العَرَب منَ الكُلوم) لنشوان بن سعيدٍ الحِمْيريّ المتوفَّى سنة 573هـ، مع صديقَيه ورفَيقي دربه، الأستاذ المؤرّخ مطهَّر بن عليٍّ الإريانيّ، الّذي سبَقَهُ بما قدّم إلى دار الحقّ، والأستاذ الدّكتور حسين بن عبد الله العَمْريّ، نَسَأ الله في عمره ومَدَّ بضَبْعه؛ ولعلّ تَمَكُّنَ الدّكتور يوسف من ناصية العربيّة، وإحسانَهُ فيها أيّما إحسان، وعِشْقَهُ إيّاها كاتبًا وشاعرًا، كان من الأسباب الّتي جعلت له يدًا طُولى في تحقيق النّصوص، أمّا اختيار الرُّفقاء الثّلاثة لتحقيق كتاب نشوان فدافعه لديهم كان الرَّمزيّة الّتي يمثّلها نشوان، بوصفه رائدًا من روّاد الهُويّة اليمنيّة، وباعثًا لأمجاد أهل اليَمَن، ومُحييًا لتراثهم، وكاشفًا لمفاخرهم وآثرهم، إذ يُعدّ ثاني اثنين من رُوّاد البَعْث والإحياء، بعد أبي محمّد، الحسن بن أحمد الهَمْدانيّ، فضلًا عن مكانة كتاب نشوان بين كُتُب معجمات العربيّة.
رحم الله الدّكتور يوسف، فقد كان مُحِبًّا لبلده، مُنْتميًا إليها متماهيًا فيها، مازَهُ الصّدق والصّراحة في حياته، وزهّده في الحياة بأَخَرَةٍ منها ما آلت إليه آثار بلاده، وما انتهى إليه قَرارها، وما انّهد ممّا أسهم في بنائه مع رُفقاء دربه طوال حياته، لعلّ النّظر في سِني الدّكتور يوسف الّتي عاشها مَزْهُوًّا ببلاده وتاريخها، ممّا سُيحفِّز الأجيال القادمة على مواصلة الكِفاح لإعادة اليَمَن إلى مكانتها، وإلى إصلاح ما دمّرته الحرب ودَمّره الجهل، واللهَ أسألُ له الغُفْران، وأن يجعل ما قدّم من خدمة أهله وبلده والإنسانيّة جمعاء، شفيعًا له وغُفْرانًا.
أ.د. مقبل التّام عامر الأحمديّ
(عضو هيئة التّدريس بقسم اللُّغة العربيّة وآدابها
كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – جامعة صنعاء)